Main

ذكرى المولد المبارك 1443

ولد النبي المختار صلى الله عليه وسلم تغشاه البهجة والأنوار، في عام الفيل، عام إنقاذ الكعبة ذات التنويل، والده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه ءامنة بنت وهب أم النبي الخاتم، وقد أرضعته حليمة السعدية، وهي به قد غدت رضية، وعندما صار عمره خمسة أعوام، أعادته إلى أمه عليه السلام، وفي السادسة من عمره الطيب، ماتت أمه فرعاه جده عبد المطلب، وفي سن الثامنة مات جده، فتولاه أبو طالب عمه وعضده، وعندما صار عمره اثنتي عشرة سنة، خرج إلى الشام برفقة عمه وغادر وطنه، وفي عمر خمس وعشرين، تزوج بالسيدة خديجة أم المؤمنين، وفي سن الأربعين أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وشرح بالرسالة صدره، ورفع في الشهادتين ذكره، ورفعه إلى المحل الأسنى، فكان قاب قوسين من جبريل أو أدنى، وكان صلى الله عليه وسلم معتدل القامة طيب الريح والشم، نظيف البدن والجسم، أطيب ريحًا من العنبر، وأزكى رائحة من المسك الأذفر، جوامع كلمه مأثورة، وبدائع حِكَمِهِ منثورة، عيون معانيه منسجمة، ودرر ألفاظه منتظمة، يصل من قَطَعه، ويُعطي من منعه، ويبذل لمن حرمه، ويعفو عمن ظلمه، لا ينتقم مع القدرة، ويصبر على ما يكره، أوضــح الله له الطرائق، وأظهر على يديه الحقائق، وأودعه أسرارًا مكنونة، وأطلعه على غرائب مخزونة، وأشهده من عجائب سلطانه وملكوته، وأظهر له إشارات على جلاله وجبروته، وشمله بألطافه الخفية، وأدناه دنوًا تنزه عن الكيفية، وأنبت له شجرة ليلة الغار، ونسج العنكبوت له سترًا من الكفار، وبرك البعير بين يديه وبه استجار.

واستجارت الظبية من صيادها، وسألته إطلاقها لتذهب إلى أولادها، فضمن إلى الصياد عودها، فأطلقها فأرضعت أولادها وأوفت وعدها، فلما عادت إلى الصياد أوثقها، ثم مَنّ عليها بإذنه فأعتقها.

وانكسرت يوم الخندق ساق ابن الحَكَم، فتفل عليها فكأنه لم يكن به ألم. وركب فرسًا لأبي طلحة غير لاحق، فصار ببركته لا تلحقه السوابق، وقطع أبو جهل يد بعض أصحابه، فبصق عليها وألصقها فشفي مما به، ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم القرءان المجيد، المنزّل عليه من حكيم حميد، الذي أنار العقول، وفاق بكلامه كل مقول، وأخرس بفصاحته بلاغة العرب، وبسيف إعجازه وإيجازه أعناقهم ضرب، وجمع الله له المعارف الوافرة، وأطلعه على مصالح الدنيا والآخرة، فهذه نبذة من معجزاته الواضحة، ولمعة من أنواره اللائحة، فعليه من الله أزكى الصلوات، وأطيب السلام وأنمى التحيات، وعلى ءاله وأصحابه من الأنصار والمهاجرة، إلى دار القرار الدار الآخرة.

حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف جائز بقول الأئمة المعتبرين.

الحمد لله رب العالمين الذي أنعم علينا ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سراجاً وإماما للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وإمام الأنبياء الحاشر العاقب الأمين، وعلى ءاله وصحابته الطيبين.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بقراءة شىء من القرءان وذكر شىء من الشمائل النبوية الشريفة أمر فيه بركة وخير عظيم إذا خلا هذا الاحتفال عن أصناف البدع القبيحة التي لا يستحسنها الشرع الشريف.

أولا : بيان أن البدعة بدعتان عند أهل السنة والجماعة وحديث: وكل بدعة ضلالة، عام مخصوص

تعريف البدعة :

لغةً ما أُحدث على غير مثال سابق، يقال: جئت بأمر بديع أي محدث عجيب لم يعرف قبل ذلك. وفي الشرع: المـحدَث الذي لم ينصَّ عليه القرءان ولا جاء في السنة، كما ذكر ذلك اللغوي المشهور الفيومي في كتابه “المصباح المنير” مادة “ب د ع”، وذكر ذلك أيضا الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في “تاج العروس” مادة “ب د ع”.

ففي “المصباح المنير”  (ص/138) : أبدع الله تعالى الخلق إبداعا خلقهم لا على مثال وأبدعت وأبدعته، استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة المخالفة بدعة وهى اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة لكن قد يكون بعضها غير مكروه فيسمى بدعة مباحة وهو ما شهد لجنسه أصل في الشرع أو اقتضته مصلحة يندفع بـها مفسدة “اهـ.

وفى المعجم الوجيز (ج1/ص45) : “هي ما استحدث فى الدين وغيره تقول بدعه بدعا أي أنشأه على غير مثال سابق”اهـ

أقسام البدعة

قال ابن العربي: ” ليست البدعة والمحدَث مذمومين للفظ بدعة ومحدث ولا معنييهما، وإنما يذم من البدعة ما يخالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى الضلالة” اهـ.

وقال النووي في كتاب تـهذيب الأسماء واللغات، مادة (ب د ع ) ج3/22 ما نصه: “البدعة بكسر الباء في الشرع هي: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وءاله وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، قال الإِمام الشيخ الـمجمع على إمامته وجلالته وتمكّنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمّد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه في ءاخر كتاب القواعد: “البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإِيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرّمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة“. انتهى كلام النووي.

فالبدعة تنقسم إلى قسمين:

  1. بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للقرءان والسنة.
  2. وبدعة هدى: وهي المحدثة الموافقة للكتاب والسنة.

وهذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“. ورواه مسلم بلفظ ءاخر وهو: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد“.
فأفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:”ما ليس منه” أن المحدَث إنما يكون ردًّا أي مردودًا إذا كان على خلاف الشريعة، وأن المحدَث الموافق للشريعة ليس مردودًا.

وهو مفهوم أيضًا مما رواه مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء “.

وفي صحيح البخاري في كتاب صلاة التـراويح ما نصه: ” قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ذلك“، قال الحافظ ابن حجر: ” أي على ترك الجماعة في التراويح“. ثم قال ابن شهاب في تتمة كلامه: “ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه“.

وفي البخاري أيضًا تتميمًا لهذه الحادثة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: “نعم البدعة هذه“.اهـ

وفي الموطأ بلفظ:” نِعمت البدعة هذه” اهـ.

فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن العرباض بن سارية: “وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة“.

فالجواب: أن هذا الحديث لفظه عام ومعناه مخصوص بدليل الأحاديث السابق ذكرها فيقال: إن مُراد النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث على خلاف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الأثر.

هذا وأما من حيث التفصيل فالبدعة منقسمة إلى الأحكام الخمسة وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام كما نص علماء المذاهب الأربعة:

أقسام البدعة في المذهب الحنفي :

  • قال الشيخ ابن عابدين الحنفي في حاشيته: (1/376) ” فقد تكون البدعة واجبة كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلّم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب”  انتهى.
  • قال بدر الدين العيني في شرحه لصحيح البخاري (ج 11/126): عند شرحه لقول عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه: ” نعمت البدعة” وذلك عندما جمع الناس في التراويح خلف قارىءٍ وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعًا متفرقين:
    والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم البدعة على نوعين، إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة” انتهى.

أقسام البدعة في المذهب المالكي :

  •  قال محمد الزرقاني المالكي في شرحه للموطأ (ج1/238) عند شرحه لقول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:
    نعمت البدعة هذه” فسماها بدعة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يسنّ الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق، وهي لغة ما أُحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعًا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى اللّه عليه وسلم، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
  • قال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: ” وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام”، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بـها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:”كل بدعة ضلالة”، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم“. اهـ

أقسام البدعة في المذهب الشافعي :

الإمام الشافعي:

  • قال الشافعي رضي الله عنه: المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469)، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (13/267).
  • روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء ج 9 ص76 عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة
  • قال أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، كتاب ءاداب الأكل ج2/3 ما نصه: وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب” اهـ
  • قال العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام” (ج2/172-174) : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، انتهى.

الإمام النووي :

  • قال النووى فى شرحه على صحيح مسلم”(6/154-155): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد: غالب البدع. قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق.قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة: نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرّبط وغير ذلك.
    ومن المباح: التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلَّتها المبسوطة في (تـهذيب الأسماء واللُّغات) فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة،
    ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التّـَراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله: (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـــــــ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى:
    {تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ} [الأحقاف، ءاية 25] اهـ
  • وقال النووي أيضا “في شرحه على صحيح مسلم”(16/226-227) : قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات،وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله:
    “فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس”. وكان الفضل العظيم للبادي بـهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة”، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة. اهـ

الإمام إبن حجر :

  • قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في الفتح (ج4/298): قوله قال عمر: “نعم البدعة” في بعض الروايات “نعمت البدعة” بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
  • وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، المـجلد الثاني، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: ” وكل ما لم يكن في زمنه– صلى الله عليه وسلم – يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك “اهـ.

أقسام البدعة في المذهب الحنبلي:

قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي في كتابه “المطلع على أبواب المقنع” (ص334) من كتاب الطلاق: “والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة” اهـ

ثانيا : حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف جائز بقول الأئمة المعتبرين، وليُعلم أن تحليل أمر أو تحريمه إنما هو وظيفة المجتهد كالإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم وعن سائر السلف الصالح،
وليس لأي شخص ألّف مؤلفًا صغيرًا أو كبيرًا أن يأخذَ وظيفة الأئمة الكرام من السلف الصالح فيُحلل ويحرّم دون الرجوع إلى كلام الأئمة المجتهدين المشهود لهم بالخيرية من سَلف الأمة وخلَفها.

فمَن حرم ذكر الله عز وجل وذكر شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم المولد النبوي بحجة أن النبي عليه السلام لم يفعله فنقول له: هل تحرّم المحاريب التي في المساجد وتعتقد أنها بدعة ضلالة؟! وهل تحرّم جمع القرءان في المصحف ونقطه بدعوى أن النبي لم يفعله؟!
فإن كنتَ تُحرّم ذلك فقد ضيقتَ ما وسع الله على عباده من استحداث أعمال خير لم تكن على عهد الرسول.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَن سَنّ في الإسلام سُنةً حسَنَةً فلَهُ أجرُها وأجْرُ مَن عَملَ بها بعده من غير أنْ ينقُصَ من أجورهم شىء » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال سيدنا عمر بن الخطـاب رضي الله عنه بعــدما جمع الناس على إمـام واحد في صـلاة التراويح: « نِعْمَ البدعة هذه » رواه الإمام البخاري في صحيحه.

من أقدم المصادر التي ذُكر فيها الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

  • ومن أقدم المصادر ذِكر الرحالة محمد بن أحمد بن جُبير الكناني الأندلسي (ولد عام 540 هجرية) للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذُكر فيها الاحتفال بذكرى المولد النبوي, هو كتاب رحلة ابن جبير(ص. 114 115). قال ما نصه:
    يفتح هذا المكان المبارك أي منزل النبي صلى الله عليه وسلم ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
  • وقد دخل ابن جبير مكة في عام 16 شوال 579هـ ومكث أكثر من ثمانية أشهر وغادرها الخميس الثاني والعشرون من ذي الحجة 579هـ متوجهاً إلى المدينة المنورة كما هو مذكور في رحلته.
    فكان الاحتفال في شهر ربيع الأول في يوم المولد النبوي الشريف هو عمل المسلمين قبل قدوم ابن جبير إلى مكة والمدينة وكان يحتفل به أهل السنة في أرض الله المكرمة، وما ذكر عن صاحب إربل الملك المظفر كان أول من اظهر الاحتفال بالمولد وتوسع فيه. 

    وابن جُبير قال عنه لسان الدين بن الخطيب، في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» : «كان أديباً بارعاً، وشاعراً مجيداً، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الخط».

 أول من أظهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

وأول من أظهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو ملك إربل وكان عالماً تقياً شجاعاً يقال له المظفر في أوائل القرن السابع للهجرة، جمع هذا الملك لهذا العمل كثيرا من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها كالحافظ ابن دحية والحافظ العراقي والحافظ العسقلاني والحافظ السخاوي والحافظ السيوطي وغيرهم كثير،
حتى علماء الأزهر كمفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد بخيت المطيعي وعلماء لبنان كمفتي بيروت الأسبق الشيخ مصطفى نجا. ولا عبرة بكلام من أفتى بخلاف قول أهل العلم لأنه ليس كلام مجتهد، والعبرة إنما هي بما وافق كلام العلماء المعتبرين، والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد التحريم، ودين الله يُسْرٌ وليسَ بعُسْرٍ.

أقوال العلماء في حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

  1. الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (المتوفى سنة902) في حكم الاحتفال بالمولد النبوي قال في فتاويه: ” إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهـر عليهم من بركاته كل فضل عميم. “
    نقلها عنه محمد بن يوسف الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد.
  2. الحافظ عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (المتوفى سنة 965هـ) في حكم الاحتفال بالمولد النبوي قال في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث ما نصـه:
    ومن أحسن البدع ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور. فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء، مشعرٌ بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعل ذلك، وبشكر الله على النعمة المحمدية. “
  3. الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي (المتوفى سنة 1299هـ)  في حكم الاحتفال بالمولد النبوي قال في كتابه القول المنجي ما نصه:
    لا زال أهل الإسلام يحتفلون ويهتمون بشهر مولده عليـه الصلاة والسلام ويعملون الولائم ويتصدقـون في لياليه بأنواع الصدقات و يظهرون السرور ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، وأول من أحدث فعل المولد الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل فكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل احتفالاً هائلاً، وقد حكى بعض من حضر سماطه في بعض الموالد أنه عدّ فيه (خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حـلواء) وكان شهماً شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية. “
  4. الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى سنة 911 هـ) في حكم الاحتفال بالمولد النبوي قال في كتابه حسن المقصد في عمل المولد:
    إن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرءان ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمدّ لهم سماطٌ يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثـاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده صلى الله عليه وسلم الشريف. “
  5. الشيخ عبد المجيد المغربي الطرابلسي أمين الفتوى (المتوفى سنة1352هـ ) قال في كتابه المنهاج في المعراج ما نصه :
    اعتاد الناس الاحتفال لاستماع قصة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام ولَنِعمَتِ الذكرى بمولد النبي العظيم الذي أخرج الله الخلقَ بهديه من الظلمات إلى النور. “
  6. الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر سابقً (المتوفى سنة 1378هـ) قال في مجلة الهداية الإسلامية مـا نصه:
    أما احتفالنا بذكرى مولده فإنّا لم نفعل غير ما فعله حَسّان بن ثابت رضي الله عنه حين كان يجلس إليه الناس ويسمعهم مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر ولم نفعل غير ما فعل علي بن أبي طالب أو البراء بن عازب أو أنس بن مالك رضي الله عنهم حين يتحدثون عن محاسن رسول الله الخلقية والخلقية في جماعة. “
  7. السيد علوى المالكي المدرس في المسجد الحرام (المتوفى سنة1391 هـ) في حكم الاحتفال بالمولد النبوي قال في مجموع فتاويه ورسائله ما نصه:
    يحتوي المولد على ثلاثة أشياء: أولاً: أنه يحتوي على ذكر اسمه عليه الصلاة والسلام ونسبه وكيفية ولادته وما وقع فيها من الآيات وكيفية نشأته وما وقع له من الرحلة للتجارة الإرهاصات الغريبة والأحوال العجيبة وذكر مبدإ بعثته وما لاقاه من الأذى والمحنة في سبيل نشر الدعوة وتبليغ القرءان وذكر هجرته وما وقع له من الغزوات والمواقف والأحوال وذكر وفاته وهل يشك الناظر في ذلك أن سيرة سيد الخلق وسيلة لكمال محبته وواسطة لتمام معرفته.
    الثاني: أن المولد سبب للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب منا بقوله {ﭐﱡيا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسلِّمُوا تسليما} وكم للصلاة عليه من فوائد.
    الثالث: أنه يحتوي على ذكر أخلاقه الشريفة وسنته الجليلة وآدابه التي أدّبه بها ربه تبارك وتعالى وفي ذلك حث على متابعته وحض على آثاره والسير على منهجه والتأسي بآدابه هذا وقد اكتسب العلماء الدعاة إلى الله تعالى في البلاد الحضرمية فرصة اجتماع العامة في مجلس المولد الشريف فقاموا بمذاكرتهم وجعلوا ذلك وسيلة لإرشادهم وفي ذلك نفع عميم وإرشاد للصراط المستقيم. “
  8. قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني: ” إنَّ قاصدي الخير وإظهار الفرح والسرور بمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمحبة له، يكفيهـم أن يجمعوا أهل الخير والصلاح والفقراء والمساكين، فيُطعموهم ويتصدقوا عليهم محبةً له صلى الله عليه وسلم، فإن أرادوا فوق ذلك، أَمروا من يُنشد من المدائح النبوية والأشـعار المتعلقة بالحثّ على الأخلاق الكريمة مما يُحرَك القلوب إلى فـعل الخيرات، والكفّ عن البدع المنكَرات أي لأنَّ من أقوى الأسباب الباعثة على محبته صلى الله عليه وسلم سماعَ الأصوات الحسنة المطربة بإنشاد المدائح النبوية، إذا صادفت محلاً قابلاً فإنها تُحدِث للسامع شكرًا ومحبة. “ من كتاب (روح السِيَر) للبرهان ابراهيم الحلبي الحنفي.

إن الله عز وجل قد كرّم النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وكرم أمته ورفع قدرها فوق الأمم السابقة، قال تعالى: }كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ{  ءال عمران /110.

وما ارتفعت هذه الأمة إلا بنبيها وما شرفت إلا به، لذلك كان الاعتناء ببيان مولد هذا النبي الكريم وما ظهر من الآيات عند ذلك وما أعطاه الله من المواهب والشمائل من مهمات الأمور، إذ يزداد المؤمن بذلك تعظيما ومعرفة بفضله صلى الله عليه وسلم.

وروى أحمد والبيهقي وغيرهما وصححه ابن حبان والحاكم عن العرباض بن سارية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”  إنّي عبدُ الله وخاتمُ النبيّين وإنّ ءادمَ لمنجدلٌ في طينتِه، وسأخبرُكم عن ذلك: دعوةُ أبي إبراهيم، وبِشارة عيسى بي، ورؤيا أمّي التي رأت، وكذلك أمّهات النبيّين يَريْن، وإنّ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام . “

في ذكرى المولد النبوي الشريف يطيب الحديث عنه عليه الصلاة والسلام ونتنسّم في ذكرى مولده المبارك عبيراً فواحاً وأعطاراً زكية، كيف لا ؟! وهو سيد الأولين والآخرين، الذي فاق جميع إخوانه النبيين والمرسلين في الخلق والخُلُق.
فليلة المولد النبوي الشريف، ليلة شريفة عظيمة مباركة، ظاهرة الأنوار، جليلة المقدار، أبرز الله تعالى فيها سيدنا محمدا إلى الوجود، فولدته آمنة في هذه الليلة الشريفة من نكاح لا من سفاح.

فقد ولد رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل في مكة الكرمة. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين وضعته أمه آمنة وقع جاثياً على ركبتيه رافعاً رأسه إلى السماء لأنها مهبط الرحمات وقبلة الدعاء ومسكن الملائكة – وأما الله تعالى فموجود بلا مكان ولا جهة – وخرج معه صلى الله عليه وسلم نور أضاءت له قصور الشام حتى رأت أمه أعناق الإبل ببُصرى.

وليلة ولادته عليه الصلاة والسلام ارتج إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وجف ماء بحيرة ساوى.
وقد توفي والده عبد الله ولآمنة ستة أشهر وهي حامل به عليه الصلاة والسلام. وأما أمه فقد توفيت وعمره ست سنوات فكفله جده عبد المطلب، ولما بلغ ثماني سنين توفي جده عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب. وأما مرضعته عليه الصلاة والسلام فهي حليمة السعدية، وأما حاضنته فهي أم أيمن الحبشية.

وقد أعطاه الله صفوة ءادم ومعرفة شيث ورقة نوح وخلة ابراهيم ورضا اسحاق وفصاحة اسماعيل وحكمة لقمان وصبر أيوب وزهد عيسى وفهم سليمان وطب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وقبول زكريا.

فماذا عسانا أن نقول في ذكرى مولدك يا سيدي يا رسول الله وأنت حبيب رب العالمين وزين المرسلين وإمام المتقين.

والحمد لله رب العالمين

Related Articles

Back to top button